فصل: سنة أربع وستمائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة ثلاث وستمائة

فيها جرت أمور طويلة بالمشرق بين الغورية والخوارزمية، وملكهم خوارزم شاه بن تكش ببلاد الطالقان‏.‏

وفيها‏:‏ ولى الخليفة القضاء ببغداد لعبد الله بن الدامغاني‏.‏

وفيها‏:‏ قبض الخليفة على عبد السلام بن عبدا لوهاب بن الشيخ عبد القادر الجبلاني، بسبب فسقه وفجوره، وأحرقت كتبه وأمواله قبل ذلك لما فيها من كتب الفلاسفة، وعلوم الأوائل‏.‏

وأصبح يستعطي بين الناس، وهذا بخطيئة قيامه على أبي الفرج بن الجوزي، فإنه هو الذي كان وشى به إلى الوزير ابن القصاب حتى أحرقت بعض كتب ابن الجوزي، وختم على بقيتها، ونفي إلى واسط خمس سنين، والناس يقولون‏:‏ في الله كفاية وفي القرآن، وجزاء سيئة سيئة مثلها‏.‏

والصوفية يقولون‏:‏ الطريق يأخذ‏.‏ والأطباء يقولون الطبيعة مكافئة‏.‏

وفيها‏:‏ نازلت الفرنج حمص فقاتلهم ملكها أسدا لدين شيركوه، وأعانه بالمدد الملك الظاهر صاحب حلب فكف الله شرهم‏.‏

وفيها‏:‏ اجتمع شابان ببغداد على الخمر فضرب أحدهما الآخر بسكين فقتله وهرب، فأخذ فقتل فوجد مع رقعة فيها بيتان من نظمه أمر أن تجعل بين أكفانه‏:‏

قدمت على الكريم بغير زاد * من الأعمال بالقلب السليم

وسوء الظن أن تعتد زادا * إذا كان القدوم على كريم

 وفيها توفى من الأعيان‏:‏

 الفقيه أبو منصور

عبد الرحمن بن الحسين بن النعمان النبلي، الملقب بالقاضي شريح لذكائه وفضله وبرعاته وعقله وكمال أخلاقه، ولي قضاء بلده ثم قدم بغداد فندب إلى المناصب الكبار فأباها، فحلف عليه الأمير طاشتكين أن يعمل عنده في الكتابة فخدمه عشرين سنة، ثم وشى به الوزير ابن مهدي إلى المهدي فحبسه في دار طاشتكين إلى أن مات في هذه السنة، ثم إن الوزير الواشي عما قريب حبس بها أيضا، وهذا مما نحن فيه من قوله‏:‏ كما تدين تدان‏.‏

 عبد الرزاق بن الشيخ عبد القادر ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/56‏)‏

كان ثقة عابداً زاهداً ورعاً، لم يكن في أولاد الشيخ عبد القادر الجيلاني خير منه، لم يدخل فيما دخلوا فيه من المناصب والولايات، بل كان متقللاً من الدنيا مقبلاً على أمر الآخرة، وقد سمع الكثير وسمع عليه أيضا‏.‏

 أبو الحزم مكي بن زيان

ابن شبة بن صالح الماكسيني، من أعمال سنجار، ثم الموصلي النحوي، قدم بغداد وأخذ على ابن الخشاب وابن القصار، والكمال الأنباري، وقدم الشام فانتفع به خلق كثير منهم الشيخ علم الدين السخاوي وغيره وكان ضريراً، وكان يتعصب لأبي العلاء المعري لما بينهما من القدر المشترك في الأدب والعمى، ومن شعره‏:‏

إذا احتاج النوال إلى شفيع * فلا تقبله تصبح قرير عين

إذا عيف النوال لفرد من * فأولى أن يعاف لمنتين

ومن شعره أيضا‏:‏

نفسي فداء لأغيد غنج * قال لنا الحق حين ودعنا

من ود شيئاً من حبه طمعاً * في قتله للوداع ودعنا

 إقبال الخادم

جمال الدين أحد خدام صلاح الدين، واقف الإقباليتين الشافعية والحنفية، وكانتا دارين فجعلهما مدرستين، ووقف عليهما وقفاً الكبيرة للشافعية والصغيرة للحنفية، وعليها ثلث الوقف‏.‏ توفي بالقدس رحمه الله‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وستمائة

فيها رجع الحجاج إلى العراق وهم يدعون الله ويشكون إليه ما لقوا من صدر جهان البخاري الحنفي، الذي كان قدم بغداد في رسالة فاحتفل به الخليفة، وخرج إلى الحج في هذه السنة، فضيق على الناس في المياه والميرة، ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/57‏)‏

فمات بسبب ذلك ستة آلاف من حجيج العراق، وكان فيما ذكروا يأمر غلمانه فتسبق إلى المناهل فيحجزون على المياه ويأخذون الماء فيرشونه حول خيمته في قيظ الحجاز ويسقونه للبقولات التي كانت تحمل معه في ترابها، ويمنعون منه الناس وابن السبيل، الأمين البيت الحرام يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً‏.‏

فلما رجع مع الناس لعنته العامة ولم تحتفل به الخاصة ولا أكرمه الخليفة ولا أرسل إليه أحدا، وخرج من بغداد والعامة من ورائه يرجمونه ويلعنونه، وسماه الناس صدر جهنم، نعوذ بالله من الخذلان، ونسأله أن يزيدنا شفقة ورحمة لعباده، فإنه إنما يرحم من عباده الرحماء‏.‏

وفيها‏:‏ قبض الخليفة على وزيره ابن مهدي العلوي، وذلك أنه نسب إليه أنه يروم الخلافة، وقيل غير ذلك من الأسباب، والمقصود أنه حبس بدار طاشتكين حتى مات، بها وكان جباراً عنيداً حتى قال بعضهم فيه‏:‏

خليلي قولا للخليفة وانصحا * توق وقيت السوء ما أنت صانع

وزيرك هذا بين أمرين فيهما * صنيعك يا خير البرية ضائع

فإن كان حقاً من سلالة حيدر * فهذا وزير في الخلافة طامع

وإن كان فيما يدعي غير صادق * فأضيع ما كانت لديه الصنائع

وقيل‏:‏ إنه كان عفيفاً عن الأموال حسن السيرة جيد المباشرة فالله أعلم بحاله‏.‏ وفي رمضان منها رتب الخليفة عشرين داراً للضيافة يفطر فيها الصائمون من الفقراء، يطبخ لهم في كل يوم فيها طعام كثير ويحمل إليها أيضاً من الخبز النقي والحلواء شيء كثير، وهذا الصنيع يشبه ما كانت قريش تفعله من الرفادة في زمن الحج‏.‏

وكان يتولى ذلك عمه أبو طالب، كما كان العباس يتولى السقاية، وقد كانت فيهم السفارة واللواء والندوة له، كما تقدم بيان ذلك في مواضعه، وقد صارت هذه المناصب كلها على أتم الأحوال في الخلفاء العباسيين‏.‏ وفيها‏:‏ أرسل الخليفة الشيخ شهاب الدين الشهرزوري وفي صحبته سنقر السلحدار إلى الملك العادل بالخلعة السنية‏.‏

وفيها‏:‏ الطوق والسواران، وإلى جميع أولاده بالخلع أيضا‏.‏

وفيها‏:‏ ملك الأوحد بن العادل صاحب ميافارقين مدينة خلاط بعد قتل صاحبها شرف الدين بكتمر، وكان شاباً جميل الصورة جداً، قتله بعض مماليكهم ثم قتل القاتل أيضا، فخلا البلد عن ملك فأخذها الأوحد بن العادل‏.‏

وفيها‏:‏ ملك خوارزم شاه محمد بن تكش بلاد ما وراء النهر بعد حروب طويلة‏.‏ اتفق له في بعض المواقف أمر عجيب، وهو أن المسلمين انهزموا عن خوارزم شاه وبقي معه عصابة قليلة من أصحابه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/58‏)‏

فقتل منهم كفار الخطا من قتلوا، وأسروا خلقاً منهم، وكان السلطان خوارزم شاه في جملة من أسروا، أسره رجل وهو لا يشعر به ولا يدري أنه الملك، وأسر معه أميراً يقال له مسعود، فلما وقع ذلك وتراجعت العساكر الإسلامية إلى مقرها فقدوا السلطان فاختبطوا فيما بينهم واختلفوا اختلافاً كثيراً وانزعجت خراسان بكمالها‏.‏

ومن الناس من حلف أن السلطان قد قتل، وأما ما كان من أمر السلطان وذاك الأمير فقال الأمير للسلطان‏:‏ من المصلحة أن تترك اسم الملك عنك في هذه الحالة، وتظهر أنك غلام لي، فقبل منه ما قال وأشار به، ثم جعل الملك يخدم ذلك الأمير يلبسه ثيابه ويسقيه الماء ويصنع له الطعام ويضعه بين يديه، ولا يألو جهداً في خدمته‏.‏

فقال الذي أسرهما‏:‏ إني أرى هذا يخدمك فمن أنت ‏؟‏فقال‏:‏ أنا مسعود الأمير، وهذا غلامي، فقال‏:‏ والله لو علم الأمراء أني قد أسرت أميراً وأطلقته لأطلقتك، فقال له‏:‏ إني إنما أخشى على أهلي، فإنهم يظنون أني قد قتلت ويقيمون المأتم، فإن رأيت أن تفاديني على مال وترسل من يقبضه منهم فعلت خيراً‏.‏

فقال‏:‏ نعم، فعين رجلاً من أصحابه فقال له الأمير مسعود‏:‏ إن أهلي لا يعرفون هذا ولكن إن رأيت أن أرسل معه غلامي هذا فعلت ليبشرهم بحياتي فإنهم يعرفونه، ثم يسعى في تحصيل المال، فقال‏:‏ نعم، فجهز معهما من يحفظهما إلى مدينة خوارزم شاه‏.‏

فلما دنوا من مدينة خوارزم سبق الملك إليها‏.‏ فلما رآه الناس فرحوا به فرحاً شديداً، ودقت البشائر في سائر بلاده، وعاد الملك إلى نصابه، واستقر السرور بإيابه، وأصلح ما كان وهي من مملكته بسبب ما اشتهر من قتله، وحاصر هراه وأخذها عنوة‏.‏

وأما الذي كان قد أسره فإنه قال يوماً للأمير مسعود الذي يتوجه لي وينوهون به أن خوارزم شاه قد قتل، فقال‏:‏ لا، هو الذي كان في أسرك، فقال له‏:‏ فهلا أعلمتني به حتى كنت أرده موقراً معظماً‏؟‏ فقال‏:‏ خفتك عليه، فقال‏:‏ سر بنا إليه، فسارا إليه فأكرمهما إكراماً زائداً، وأحسن إليهما‏.‏

وأما غدر صاحب سمرقند فإنه قتل كل من كان في أسره من الخوارزمية، حتى كان الرجل يقطع قطعتين ويعلق في السوق كما تعلق الأغنام، وعزم على قتل زوجته بنت خوارزم شاه ثم رجع عن قتلها وحبسها في قلعة وضيق عليها، فلما بلغ الخبر إلى خوارزم شاه سار إليه في الجنود فنازله وحاصر سمرقند فأخذها قهراً وقتل من أهلها نحوا من مائتي ألف‏.‏

وأنزل الملك من القلعة وقتله صبراً بين يديه، ولم يترك له نسلاً ولا عقباً، واستحوذ خوارزم شاه على تلك الممالك التي هنالك، وتحارب الخطا وملك التتار كشلي خان المتاخم لمملكة الصين، فكتب ملك الخطا لخوارزم شاه يستنجده على التتار ويقول‏:‏ متى غلبونا خلصوا إلى بلادك، وكذا وكذا‏.‏

وكتب التتار إليه أيضاً يستنصرونه على الخطا ويقولون‏:‏ هؤلاء أعداؤنا وأعداؤك، فكن معنا عليهم، فكتب إلى كل من الفريقين يطيب قلبه، وحضر الوقعة بينهم وهو متحيز عن الفريقين، وكانت الدائرة على الخطا، فهلكوا إلا القليل منهم، وغدر التتار ما كانوا عاهدوا عليه خوارزم شاه‏.‏

فوقعت بينهم الوحشة الأكيدة، وتواعدوا للقتال، وخاف منهم خوارزم شاه وخرب بلاداً كثيرة متاخمة لبلاد كشلى خان خوفاً عليها أن يملكها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/59‏)‏

ثم إن جنكيز خان خرج على كشلى خان، فاشتغل بمحاربته عن محاربة خوارزم شاه، ثم إنه وقع من الأمور الغريبة ما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

وفيها‏:‏ كثرت غارات الفرنج من طرابلس على نواحي حمص، فضعف صاحبها أسد الدين شيركوه عن مقاومتهم، فبعث إليه الظاهر صاحب حلب عسكراً قواه بهم على الفرنج، وخرج العادل من مصر في العساكر الإسلامية، وأرسل إلى جيوش الجزيرة فوافوه على عكا فحاصرها، لأن القبارصة أخذوا من أسطول المسلمين قطعاً فيها جماعة من المسلمين‏.‏

فطلب صاحب عكا الأمان والصلح على أن يرد الأسارى، فأجابه إلى ذلك، وسار العادل فنزل على بحيرة قدس قريباً من حمص، ثم سار إلى بلاد طرابلس، فأقام اثني عشر يوماً يقتل ويأسر ويغنم، حتى جنح الفرنج إلى المهادنة، ثم عاد إلى دمشق‏.‏

وفيها‏:‏ ملك صاحب أذربيجان الأمير نصير الدين أبو بكر بن البهلول مدينة مراغة لخلوها عن ملك قاهر، لأن ملكها مات وقام بالملك بعده ولد له صغير، فدبر أمره خادم له‏.‏ وفي غرة ذي القعدة شهد محيي الدين أبو محمد يوسف بن عبد الرحمن بن الجوزي عند قاضي القضاة أبي القاسم بن الدامغاني، فقبله وولاه حسبة جانبي بغداد‏.‏

وخلع عليه خلعة سنية سوداء بطرحة كحلية، وبعد عشرة أيام جلس للوعظ مكان أبيه أبي الفرج بباب درب الشريف، وحضر عنده خلق كثير‏.‏ وبعد أربعة أيام من يومئذ درس بمشهد أبي حنيفة ضياء الدين أحمد بن مسعود الركساني الحنفي، وحضر عنده الأعيان والأكابر‏.‏

وفي رمضان منها وصلت الرسل من الخليفة إلى العادل بالخلع، فلبس هو وولداه المعظم والأشرف ووزيره صفي الدين بن شكر، وغير واحد من الأمراء، ودخلوا القلعة وقت صلاة الظهر من باب الحديد، وقرأ التقليد الوزير وهو قائم، وكان يوما مشهودا‏.‏

وفيها‏:‏ درس شرف الدين عبد الله ابن زين القضاة عبد الرحمن بالمدرسة الرواحية بدمشق‏.‏

وفيها‏:‏ انتقل الشيخ الخير بن البغدادي من الحنبلية إلى مذهب الشافعية، ودرس بمدرسة أم الخليفة، وحضر عنده الأكابر من سائر المذاهب‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 13/60‏)‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 الأمير بنامين بن عبد الله

أحد أمراء الخليفة الناصر، كان من سادات الأمراء عقلاً وعفة ونزاهة، سقاه بعض الكتاب من النصارى سماً فمات‏.‏ وكان اسم الذي سقاه ابن ساوا، فسلمه الخليفة إلى غلمان بنيامين فشفع فيه ابن مهدي الوزير وقال‏:‏ إن النصارى قد بذلوا فيه خمسين ألف دينار، فكتب الخليفة على رأس الورقة‏:‏

إن الأسود أسود الغاب همتها * يوم الكريهة في المسلوب لا السلب

فتسلمه غلمان بنيامين فقتلوه وحرقوه، وقبض الخليفة بعد ذلك على الوزير ابن مهدي كما تقدم‏.‏

 حنبل بن عبد الله

ابن الفرج بن سعادة الرصافي الحنبلي، المكبر بجامع المهدي، راوي مسند أحمد عن ابن الحصين عن ابن المذهب عن أبي مالك عن عبد الله عن أبيه، عمر تسعين سنة وخرج من بغداد فأسمعه بإربل، واستقدمه ملوك دمشق إليها فسمع الناس بها عليه المسند، وكان المعظم يكرمه ويأكل عنده على السماط من الطيبات، فتصيبه التخمة كثيراً، لأنه كان فقيراً ضيق الأمعاء من قلة الأكل، خشن العيش ببغداد‏.‏

وكان الكندي إذا دخل على المعظم يسأل عن حنبل فيقول المعظم هو متخوم، فيقول أطعمه العدس فيضحك المعظم، ثم أعطاه المعظم مالاً جزيلاً ورده إلى بغداد فتوفي بها، وكان مولده سنة عشر وخمسمائة، وكان معه ابن طبرزد، فتأخرت وفاته عنه إلى سنة سبع وستمائة‏.‏

 عبد الرحمن بن عيسى

ابن أبي الحسن المروزي الواعظ البغدادي، سمع من ابن أبي الوقت وغيره، واشتغل علي ابن الجوزي بالوعظ، ثم حدثته نفسه بمضاهاته وشمخت نفسه، واجتمع عليه طائفة من أهل باب النصيرة ثم تزوج في آخر عمره وقد قارب السبعين، فاغتسل في يوم بارد فانتفخ ذكره فمات في هذه السنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/61‏)‏

 الأمير زين الدين قراجا الصلاحي

صاحب صرخد، كانت له دار عند باب الصفير عند قناة الزلاقة، وتربته بالسفح في قبة على جادة الطريق عند تربة ابن تميرك، وأقر العادل ولده يعقوب على صرخد‏.‏

 عبد العزيز الطبيب

توفي فجأة، وهو والد سعد الدين الطبيب الأشرفي، وفيه يقول ابن عنين‏:‏

فراري ولا خلف الخطيب جماعة * وموت ولا عبد العزيز طبيب

وفيها توفي‏:‏

 العفيف بن الدرحي

إمام مقصورة الحنفية الغربية بجامع بني أمية‏.‏

 أبو محمد جعفر بن محمد

ابن محمود بن هبة الله بن أحمد بن يوسف الإربلي، كان فاضلاً في علوم كثيرة في الفقه على مذهب الشافعي، والحساب، والفرائض، والهندسة، والأدب، والنحو، وما يتعلق بعلوم القرآن العزيز، وغير ذلك ومن شعره‏:‏

لا يدفع المرء ما يأتي به القدر * وفي الخطوب إذا فكرت معتبر

فليس ينجي من الأقدار إن نزلت * رأى وحزم ولا خوف ولا حذر

فاستعمل الصبر في كل الأمور ولا * تجزع لشيء فعقبى صبرك الظفر

كم مُسناً عسر فصرفه الإ * له عنا وولى بعده سر

لا ييئس المرء من روح الإله فما * ييأس منه إلا عصبة كفروا

إني لأعلم أن الدهر ذو دول * وأن يوميه ذا أمن وذا خطر

 ثم دخلت سنة خمس وستمائة

في محرمها كمل بناء دار الضيافة ببغداد التي أنشأها الناصر لدين الله بالجانب الغربي منها للحجاج والمارة لهم الضيافة ما داموا نازلين بها، فإذا أراد أحدهم السفر منها زود، وكسي، وأعطي بعد ذلك ديناراً، جزاه الله خيراً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/62‏)‏

وفيها‏:‏ عاد أبو الخطاب ابن دحية الكلبي من رحلته العراقية، فاجتاز بالشام، فاجتمع في مجلس الوزير الصفي هو والشيخ تاج الدين أبو اليمن الكندي شيخ اللغة والحديث، فأورد ابن دحية في كلامه حديث الشفاعة حتى انتهى إلى قول إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏(‏‏(‏إنما كنت خليلاً من وراء وراء‏)‏‏)‏ بفتح اللفظتين‏.‏

فقال الكندي‏:‏ من وراء وراء بضمهما، فقال ابن دحية للوزير ابن شكر‏:‏ من هذا‏؟‏

فقال‏:‏ هذا أبو اليمن الكندي، فنال منه ابن دحية، وكان جريئاً‏.‏

فقال الكندي‏:‏ هو من كلب ينبح كما ينبح الكلب‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وكلتا اللفظتين محكية، وحكى فيهما الجر أيضاً‏.‏

وفيها‏:‏ عاد فخر الدين بن تيمية خطيب من حران من الحج إلى بغداد وجلس بباب بدر للوعظ، مكان محيي الدين يوسف بن الجوزي، فقال في كلامه ذلك‏:‏

وابن اللبون إذا ما لزَّ في قرن * لم يستطع صولة البزل القناعيس

كأنه يعرض بابن الجوزي يوسف لكونه شاباً ابن خمس وعشرين سنة والله أعلم‏.‏

وفي يوم الجمعة تاسع محرم دخل مملوك أفرنجي من باب مقصورة جامع دمشق وهو سكران وفي يده سيف مسلول، والناس جلوس ينتظرون صلاة الفجر، فمال على الناس يضربهم بسيفه، فقتل اثنتين أو ثلاثة، وضرب المنبر بسيفه فانكسر سيفه، فأخذوا أودع المارستان وشنق في يومه ذلك على جسر اللابادين‏.‏

وفيها‏:‏ عاد الشيخ شهاب الدين السهروردي من دمشق بهدايا الملك العادل فتلقاه الجيش ومعه أموال كثيرة أيضا لنفسه، وكان قبل ذلك فقيراً زاهداً، فلما عاد منع من الوعظ وأخذت منه الربط التي يباشرها، ووكل إلى ما بيده من الأموال، فشرع في تفريقها على الفقراء والمساكين، فاستغنى منه خلق كثير‏.‏

فقال المحيي ابن الجوزي في مجلس وعظه‏:‏ لا حاجة بالرجل يأخذ أموالا من غير حقها، ويصرفها إلى من يستحقها، ولو ترك على ما كان تركها أولى به من تناولها، وإنما أراد أن ترتفع منزلته ببذلها‏.‏ ويعود على حاله كما كان مباشره لما بذلها، فليحذر العبد الدنيا فإنها خداعة غرارة تسترق فُحول العلماء والعباد‏.‏

وقد وقع ابن الجوزي فيما بعد فيما وقع فيه السهروردي وأعظم‏.‏

وفيها‏:‏ قصدت الفرنج حمص وعبروا على العاصي يجسر عدوة، فلما عرف بهم العساكر ركبوا في آثارهم فهربوا منهم فقتلوا خلقاً كثيراً منهم، وغنم المسلمون منهم غنيمة جيدة، ولله الحمد‏.‏

وفيها‏:‏ قتل صاحب الجزيرة، وكان من أسوأ الناس سيرة وأخبثهم سريرة وهو الملك سنجر شاه بن غازي بن مودود بن زنكي بن آقسنقر الأتابكي، ابن عم نور الدين صاحب الموصل، وكان الذي تولى قتله ولده غازي، توصل إليه حتى دخل عليه وهو في الخلاء سكران، فضربه بسكين أربع عشرة ضربة، ثم ذبحه، وذلك كله ليأخذ الملك من بعده فحرمه الله إياه‏.‏

فبويع بالملك لأخيه محمود وأخذ غازي القاتل فقتله من يومه، فسلبه الله الملك والحياة، ولكن أراح الله المسلمين من ظلم أبيه وغشمه وفسقه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13 /63‏)‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 أبو الفتح محمد بن أحمد بن بخيتار

ابن علي الواسطي المعروف بابن السنداي، آخر من روى المسند عن أحمد بن حنبل عن بن الحصين، وكان من بيت فقه وقضاء وديانة، وكان ثقة عدلاً متورعاً في النقل، ومما أنشده من حفظه‏:‏

ولو أن ليلى مطلع الشمس دونها * وكانت من وراء الشمس حين تغيب

لحدثت نفسي بانتظار نوالها * وقال المنى لي‏:‏ إنها لقريب

 قاضي القضاة لمصر

صدر الدين عبد الملك بن درباس المارديني الكردي والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وستمائة

في المحرم وصل نجم الدين خليل شيخ الحنفية من دمشق إلى بغداد في الرسلية عن العادل ومعه هدايا كثيرة، وتناظر هو وشيخ النظامية مجد الدين يحيى بن الربيع في مسألة وجوب الزكاة في مال اليتيم والمجنون، وأخذ الحنفي يستدل على عدم وجوبها، فاعترض عليه الشافعي فأجاد كل منهما في الذي أورده، ثم خلع على الحنفي وأصحابه بسبب الرسالة، وكانت المناظرة بحضرة نائب الوزير ابن شكر‏.‏

وفي يوم السبت خامس جمادى الآخرة وصل الجمال يونس بن بدران المصري رئيس الشافعية بدمشق إلى بغداد في الرسلية عن العادل، فتلقاه الجيش مع حاجب الحجاب، ودخل معه ابن أخي صاحب إربل مظفر الدين كوكري، والرسالة تتضمن الاعتذار عن صاحب إربل والسؤال في الرضا عنه، فأجيب إلى ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ ملك العادل الخابور ونصيبين وحاصر مدينة سنجار مدة فلم يظفر بها ثم صالح صاحبها ورجع عنها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/64‏)‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 القاضي الأسعد ابن مماتي

أبو المكارم أسعد بن الخطير أبي سعيد مهذب بن مينا بن زكريا الأسعد بن مماتي بن أبي قدامة ابن أبي مليح المصري الكاتب الشاعر، أسلم في الدولة الصلاحية وتولى نظر الدواوين بمصر مدة قال ابن خلكان‏:‏ وله فضائل عديدة، ومصنفات كثيرة، ونظم ‏(‏سيرة صلاح الدين، و‏(‏كليلة ودمنة‏)‏، وله ديوان شعر‏.‏

ولما تولى الوزير ابن شكر هرب منه إلى حلب فمات بها وله ثنتان وستون سنة‏.‏ فمن شعره في ثقيل زاره بدمشق‏:‏

حكى نهرين وما في الأر * ض من يحكيهما أبدا

حكى في خلقه ثوراً * أراد وفي أخلاقه بردا

 أبو يعقوب يوسف بن إسماعيل

ابن عبدا لرحمن بن عبدا لسلام اللمعاني، أحد الأعيان من الحنفية ببغداد، سمع الحديث ودرس بجامع السلطان، وكان معتزلياً، في الأصول، بارعاً في الفروع، اشتغل على أبيه وعمه، وأتقن الخلاف وعلم المناظرة، وقارب التسعين‏.‏

 أبو عبد الله محمد بن الحسن

المعروف بابن الخراساني، المحدث الناسخ، كتب كثيراً، من الحديث وجمع خطباً، له ولغيره وخطه جيد مشهور‏.‏

 أبو الواهب معتوق بن منيع

ابن مواهب الخطيب البغدادي، قرأ النحو واللغة على ابن الخشاب، وجمع خطباً، كان يخطب منها، وكان شيخاً فاضلاً له ديوان شعر، فمنه قوله‏:‏

ولا ترجو الصداقة من عدوٍ * يعادي نفسه سراً وجهرا

فلو أجدت مودته انتفاعاً * لكان النفع منه إليه أجرا

 ابن خروف ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/65‏)‏

شارح سيبويه على بن محمد بن يوسف أبو الحسن بن خروف الأندلسي النحوي شرح سيبويه، وقدمه إلى صاحب المغرب فأعطاه ألف دينار، وشرح جمل الزجاجي، وكان يتنقل في البلاد ولا يسكن إلا في الخانات، ولم يتزوج ولا تسرى، ولذلك علة تغلب على طباع الأراذل وقد تغير عقله في آخر عمره، فكان يمشي في الأسواق مكشوف الرأس، توفي عن خمس وثمانين سنة‏.‏

 أبو علي يحيى بن الربيع

ابن سلميان بن حرار الواسطي البغدادي، اشتغل بالنظامية على فضلان وأعاد عنه، وسافر إلى محمد بن يحيى فأخذ عنه طريقته في الخلاف، ثم عاد إلى بغداد ثم صار مدرساً بالنظامية وناظراً على أوقافها، وقد سمع الحديث وكان لديه علوم كثيرة، ومعرفة حسنة بالمذهب، وله تفسير في أربع مجلدات كان يدرس منه، واختصر تاريخ الخطيب والذيل عليه لابن السمعاني وقارب الثمانين‏.‏

 ابن الأثير صاحب جامع الأصول والنهاية

المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد مجد الدين أبو السعادات الشيباني الجزري الشافعي، المعروف بابن الأثير، وهو أخو الوزير وزير الأفضل ضياء الدين نصر الله، وأخو الحافظ عز الدين أبي الحسن علي صاحب الكامل في التاريخ، ولد أبو السعادات هذا في إحدى الربيعين سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وسمع الحديث الكثير وقرأ القرآن وأتقن علومه وحررها، وكان مقامه بالموصل، وقد جمع في سائر العلوم كتباً مفيدة، منها جامع الأصول الستة الموطأ والصحيحين وسنن أبي داود والنسائي والترمذي، ولم يذكر ابن ماجه فيه، وله كتاب النهاية في غريب الحديث وله شرح مسند الشافعي والتفسير في أربع مجلدات، وغير ذلك في فنون شتى، وكان معظماً عند ملوك الموصل، فلما آل الملك إلى نور الدين أرسلان شاه، أرسل إليه مملوكه لؤلؤ أن يستوزره فأبى فركب السلطان إليه فامتنع أيضاً وقال له‏:‏ قد كبرت سني واشتهرت بنشر العلم، ولا يصلح هذا الأمر إلا بشيء من العسف والظلم، ولا يليق بي ذلك، فأعفاه‏.‏

قال أبو السعادات‏:‏ كنت أقرأ علم العربية على سعيد بن الدهان، وكان يأمرني بصنعة الشعر فكنت لا أقدر عليه، فلما توفي الشيخ رأيته في بعض الليالي، فأمرني بذلك، فقلت له‏:‏ ضع لي مثالاً أعمل عليه فقال‏:‏

حب العلا مدمناً إن فاتك الظفر* فقلت أنا‏:‏ وخدّ خد الثرى والليل معتكر

فالعز في صهوات الليل مركزه * والمجد ينتجه الإسراء والسهر

فقال‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/66‏)‏

أحسنت ثم استيقظت فأتممت عليها نحواً من عشرين بيتاً‏.‏

كانت وفاته في سلخ ذي الحجة عن ثنتين وستين سنة، وقد ترجمه أخوه في الذيل فقال‏:‏ كان عالماً في عدة علوم منها الفقه وعلم الأصول والنحو والحديث واللغة، وتصانيفه مشهورة في التفسير والحديث والفقه والحساب وغريب الحديث، وله رسائل مدونة، وكان مغلقاً يضرب به المثل ذا دين متين، ولزم طريقة مستقيمة رحمه الله، فلقد كان من محاسن الزمان‏.‏

قال ابن الأثير وفيها توفي‏:‏

المجلد المطرزي النحوي الخوارزمي

كان إماماً في النحو له فيه تصانيف حسنة‏.‏

قال أبو شامة‏.‏ وفيها توفي‏:‏

 الملك المغيث

فتح الدين عمر بن الملك العادل، ودفن في تربة أخيه المعظم بسفح قاسيون والملك المؤيد‏:‏

مسعود بن صلاح الدين

بمدرسة رأس العين فحمل إلى حلب فدفن بها‏.‏ وفيها توفي‏:‏

 الفخر الرازي

المتكلم صاحب التيسير والتصانيف، يعرف بابن خطيب الري، واسمه محمد بن عمر بن الحسين ابن علي القرشي التيمي البكري، أبو المعالي وأبو عبد الله المعروف بالفخر الرازي، ويقال له ابن خطيب الري، أحد الفقهاء الشافعية المشاهير بالتصانيف الكبار والصغار نحو من مائتي مصنف، منها التفسير الحافل والمطالب العالية، والمباحث الشرقية، والأربعين، وله أصول الفقه والمحصول وغيره، وصنف ترجمه الشافعي في مجلد مفيد، وفيه غرائب لا يوافق عليها، وينسب إليه أشياء عجيبة، وقد ترجمته في طبقات الشافعية، وقد كان معظماً عند ملوك خوارزم وغيرهم، وبنيت له مدارس كثيرة في بلدان شتى، وملك من الذهب العين ثمانين ألف دينار، وغير ذلك من الأمتعة والمراكب والأثاث والملابس، وكان له خمسون مملوكاً من الترك، ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/67‏)‏

وكان يحضر في مجلس وعظه الملوك والوزراء والعلماء والأمراء والفقراء والعامة، وكانت له عبادات وأوراد، وقد وقع بينه وبين الكرامية في أوقات وكان يبغضهم ويبغضونه ويبالغون في الحط عليه، ويبالغ هو أيضاً في ذمهم‏.‏ وقد ذكرنا طرفاً من ذلك فيما تقدم، وكان مع غزارة علمه في فن الكلام يقول‏:‏ من لزم مذهب العجائز كان هو الفائز، وقد ذكرت وصيته عند موته وأنه رجع عن مذهب الكلام فيها إلى طريقة السلف وتسليم ما ورد على وجه المراد اللائق بجلال الله سبحانه‏.‏

وقال الشيخ شهاب الدين أبو شامة في الذيل في ترجمته‏:‏ كان يعظ وينال من الكرامية وينالون منه سباً وتكفيراً بالكبائر، وقيل إنهم وضعوا عليه من سقاه سماً فمات ففرحوا بموته، وكانوا يرمونه بالمعاصي مع المماليك وغيرهم، قال‏:‏ وكانت وفاته في ذي الحجة، ولا كلام في فضله ولا فيما كان يتعاطاه، وقد كان يصحب السلطان ويحب الدنيا ويتسع فيها اتساعا زائداً، وليس ذلك من صفة العلماء، ولهذا وأمثاله كثرت الشناعات عليه، وقامت عليه شناعات عظيمة بسبب كلمات كان يقولها مثل قوله‏:‏ قال محمد البادي، يعني العربي يريد به النبي صلى الله عليه وسلم، نسبة إلى البادية‏.‏ وقال محمد الرازي يعني نفسه، ومنها أنه كان يقرر الشبهة من جهة الخصوم بعبارات كثيرة ويجيب عن ذلك بأدنى إشارة وغير ذلك، قال وبلغني أنه خلف من الذهب العين مائتي ألف دينار غير ما كان يملكه من الدواب والثياب والعقار والآلات، وخلف ولدين أخذ كل واحد منهما أربعين ألف دينار، وكان ابنه الأكبر قد تجند وخدم السلطان محمد بن تكش‏.‏

وقال ابن الأثير في ‏(‏الكامل‏)‏‏:‏

وفيها‏:‏ توفي فخر الدين الرازي محمد بن عمر بن خطيب الري الفقيه الشافعي صاحب التصانيف المشهورة والفقه والأصول، كان إمام الدنيا في عصره، بلغني أن مولده سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ومن شعره قوله‏:‏

إليك إله الخلق وجهي ووجهتي * وأنت الذي أدعوه في السر والجهر

وأنت غياثي عند كل ملمة * وأنت ملاذي في حياتي وفي قبري

ذكره ابن الساعي عن ياقوت الحموي عن ابن الفخر الدين عنه وبه قال‏:‏

تتمة أبواب السعادة للخلق * بذكر جلال الواحد الأحد الحق

مدبر كل الممكنات بأسرها * ومبدعها بالعدل والقصد والصدق

أجل جلال الله عن شبه خلقه * وأنصر هذا الدين في الغرب والشرف

إله عظيم الفضل والعدل والعلى * هو المرشد المغوي هو المسعد المشقي ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/68‏)‏

ومما كان ينشده‏:‏

وأرواحنا في وحشة من جسومنا * وحاصل دنيانا أذىً ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا * سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

ثم يقول‏:‏ لقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فلم أجدها تروي غليلاً ولا تشفى عليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏‏.‏

{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُب‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 10‏]‏‏.‏

وفي النفي‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏، ‏{‏هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 65‏]‏‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وستمائة

ذكر الشيخ أبو شامة أن في هذه السنة تمالأت ملوك الجزيرة‏:‏ صاحب الموصل وصاحب سنجار وصاحب إربل والظاهر صاحب حلب وملك الروم، على مخالفة العادل ومنابذته ومقاتلته واصطلام الملك من يده، وأن تكون الخطبة للملك كنجر بن قلج أرسلان صاحب الروم، وأرسلوا إلى الكرج ليقدموا الحصار خلاط، وفيها الملك الأوحد بن العادل، ووعدهم النصر والمعاونة عليه‏.‏

قلت وهذا بغي وعدوان ينهى الله عنه، فأقبلت الكرج بملكهم إيواني فحاصروا خلاط فضاق بهم الأوحد ذرعاً وقال‏:‏ هذا يوم عصيب، فقدر الله تعالى أن في يوم الاثنين تاسع عشر ربيع الآخر اشتد حصارهم للبلد وأقبل ملكهم إيواني وهو راكب على جواده وهو سكران فسقط به جواده في بعض الحفر التي قد أعدت مكيدة حول البلد، فبادر إليه رجال البلد فأخذوه أسيراً حقيراً، فأسقط في أيدي الكرج، فلما أوقف بين يدي الأوحد أطلقه ومن عليه وأحسن إليه، وفاداه على مائتي ألف دينار وألفي أسير من المسلمين، وتسليم إحدى وعشرين قلعة متاخمة لبلاد الأوحد وأن يزوج ابنته من أخيه الأشرف موسى، وأن يكون عوناً له على من يحاربه، فأجابه إلى ذلك كله فأخذت منه الأيمان بذلك وبعث الأوحد إلى أبيه يستأذنه في ذلك كله وأبوه نازل بظاهر حراب في أشد حدة مما قد داهمه من هذا الأمر الفظيع، فبينما هو كذلك إذ أتاه هذا الخبر والأمر الهائل من الله العزيز الحكيم، لا من حولهم ولا من قوتهم، ولا كان في بالهم، فكاد يذهل من شدة الفرح والسرور، ثم أجاز جميع ما شرطه ولده، وطارت الأخبار بما وقع بين الملوك فخضعوا وذلوا عند ذلك، وأرسل كل منهم يعتذر مما نسب إليه ويحيل على غيره، فقبل منهم اعتذاراتهم وصالحهم صلحاً أكيداً واستقبل الملك عصراً جديداً، وفي ملك الكرج الأوحد بجميع ما شرطه عليه، وتزوج الأشرف ابنته‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/69‏)‏

ومن غريب ما ذكره أبو شامة في هذه الكائنة أن قسيس الملك كان ينظر في النجوم فقال للملك قبل ذلك بيوم‏:‏ أعلم أنك تدخل غداً إلى قلعة خلاط ولكن بزي غير ذلك أذان العصر، فوافق دخوله إليها أسيراً أذان العصر‏.‏

 ذكر وفاة صاحب الموصل نور الدين

أرسل الملك نور الدين شاه بن عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل يخطب ابنة السلطان الملك العادل، وأرسل وكيله لقبول العقد على ثلاثين ألف دينار، فاتفق موت نور الدين ووكيله سائر في أثناء الطريق، فعقد العقد بعد وفاته، وقد أثنى عليه ابن الأثير في كامله كثيراً وشكر منه ومن عدله وشهامته وهو أعلم به من غيره، وذكر أن مدة ملكه سبع عشرة سنة وإحدى عشر شهراً، وأما أبو المظفر السبط فإنه قال‏:‏ كان جباراً ظالماً بخيلاً سفاكاً للدماء فالله أعلم به‏.‏

وقام بالملك ولده القاهر عز الدين مسعود، وجعل تدبير مملكته إلى غلامه بدر الدين لؤلؤ الذي صار الملك إليه فيما بعد‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وفي سابع شوال شرع في عمارة المصلى، وبنى له أربع جدر مشرفة، وجعل له أبواباً صوناً لمكانه من الميار ونزول القوافل، وجعل في قبلته محراباً من حجارة ومنبراً من حجارة وعقدت فوق ذلك قبة‏.‏

ثم في سنة ثلاث عشرة عمل في قبلته رواقان وعمل له منبر من خشب ورتب له خطيب وإمام راتبان، ومات العادل ولم يتم الرواق الثاني منه، وذلك كله على يد الوزير الصفي ابن شكر‏.‏

قال وفي ثاني شوال منها جددت أبواب الجامع الأموي من ناحية باب البريد بالنحاس الأصفر، وركبت في أماكنها‏.‏ وفي شوال أيضاً شرع في إصلاح الفوارة والشاذروان والبركة وعمل عندها مسجد، وجعل له إمام راتب، وأول من تولاه رجل يقال له النفيس المصري، وكان يقال له بوق الجامع لطيب صوته إذا قرأ على الشيخ أبي منصور الضرير المصدر فيجتمع عليه الناس الكثيرون‏.‏

وفي ذي الحجة منها توجهت مراكب من عكا إلى البحر إلى ثغر دمياط

وفيها‏:‏ ملك قبرص المسمى إليان فدخل الثغر ليلاً فأغار على بعض البلاد فقتل وسبى وكر راجعاً فركب مراكبه ولم يدركه الطلب، وقد تقدمت له مثلها قبل هذه، وهذا شيء لم يتفق لغيره لعنه الله‏.‏

وفيه عاثت الفرنج بنواحي القدس فبرز إليهم الملك المعظم، وجلس الشيخ شمس الدين أبو المظفر ابن قر علي الحنفي وهو سبط ابن الجوزي ابن ابنته رابعة، وهو صاحب مرآة الزمان، وكان فاضلاً في علوم كثيرة، حسن الشكل طيب الصوت وكان يتكلم في الوعظ جيداً وتحبه العامة على صيت جده، وقد رحل من بغداد فنزل دمشق وأكرمه ملوكها، وولى التدريس بها، وكان يجلس كل يوم سبت عند باب مشهد علي بن الحسين زين العابدين إلى السارية التي يجلس عندها الوعاظ في زماننا هذا، ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/70‏)‏

فكان يكثر الجمع عنده حتى يكونوا من باب الناطفانيين إلى باب المشهد إلى باب الساعات، الجلوس غير الوقوف، فحزر جمعه في بعض الأيام ثلاثين ألفاً من الرجال والنساء، وكان الناس يبيتون ليلة السبت في الجامع ويدعون البساتين، يبيتون في قراءة ختمات وأذكار ليحصل لهم أماكن من شدة الزحام، فإذا فرغ من وعظه خرجوا إلى أماكنهم وليس لهم كلام إلا فيما قال يومهم ذلك أجمع، يقولون قال الشيخ وسمعنا من الشيخ فيحثهم ذلك على العمل الصالح والكف عن المساوي، وكان يحضر عنده الأكابر، حتى الشيخ تاج الدين أبو اليمن الكندي، كان يجلس في القبة التي عند باب المشهد هو ووالي البلد المعتمد ووالي البر ابن تميرك وغيرهم‏.‏

والمقصود أنه لما جلس يوم السبت خامس ربيع الأول كما ذكرنا حث الناس على الجهاد وأمر بإحضار ما كان تحصل عنده من شعر التائبين، وقد عمل منه شكالات تحمل الرجال، فلما رآها الناس ضجوا ضجة واحدة وبكوا بكاء كثيراً وقطعوا من شعورهم نحوها، فلما انقضى المجلس ونزل عن المنبر فتلقاه الوالي مبادر الدين المعتمد بن إبراهيم‏.‏

وكان من خيار الناس، فمشى بين يديه إلى باب الناطفيين يعضده حتى ركب فرسه والناس من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، فخرج من باب الفرج وبات بالمصلى ثم ركب من الغد في الناس إلى الكسوة ومعه خلائق كثيرون خرجوا بنية الجهاد إلى بلاد القدس، وكان من جملة من معه ثلاثمائة من جهة زملكا بالعدد الكثيرة التامة، قال‏:‏

فجئنا عقبة أفيق والطير لا يتجاسر أن يطير من خوف الفرنج، فلما وصلنا نابلس تلقانا المعظم، قال ولم أكن اجتمعت به قبل ذلك، فلما رأى الشكالات من شعور التائبين جعل يقبلها ويمرغها على عينيه ووجهه ويبكي، وعمل أبو المظفر ميعاداً بنابلس وحث على الجهاد وكان يوماً مشهوداً، ثم سار هو ومن معه وصحبته المعظم نحو الفرنج فقتلوا خلقاً وخربوا أماكن كثيرة، وغنموا وعادوا سالمين، وشرع المعظم في تحصين جبل الطور وبنى قلعة فيه ليكون إلباً على الفرنج، فغرم أموالاً كثيرة في ذلك، فبعث الفرنج إلى العادل يطلبون منه الأمان والمصالحة، فهادنهم وبطلت تلك العمارة وضاع ما كان المعظم غرم عليها والله أعلم‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 الشيخ أبو عمر

باني المدرسة بسفح قاسيون للفقراء المشتغلين في القرآن رحمه الله، محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة الشيخ الصالح أبو عمر المقدسي، باني المدرسة التي بالسفح يقرأ بها القرآن العزيز، وهو أخو الشيخ موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة، وكان أبو عمر أسن منه، لأنه ولد سنة ثمان وعشرين وخمسمائة بقرية الساويا، وقيل بجماعيل، والشيخ أبو عمر ربى الشيخ موفق الدين وأحسن إليه وزوجه، وكان يقوم بمصالحه، فلما قدموا من الأرض المقدسة نزلوا بمسجد أبي صالح خارج باب شرقي ثم انتقلوا منه إلى السفح، ليس به من العمارة شيء سوى دير الحوراني، ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/71‏)‏

قال فقيل لنا الصالحيين نسبة إلى مسجد أبي صالح لا أنا صالحون، وسميت هذه البقعة من ذلك الحين بالصالحية نسبة إلينا، فقرأ الشيخ أبو عمر القرآن على رواية أبي عمرو، وحفظ مختصر الخرقي في الفقه، ثم إن أخاه الموفق شرحه فيما بعد فكتب شرحه بيده، وكتب تفسير البغوي والحلية لأبي نعيم والإبانة لابن بطة، وكتب مصاحف كثيرة بيده للناس ولأهله بلا أجرة، وكان كثير العبادة والزهادة والتهجد، ويصوم الدهر وكان لا يزال متبسماً، وكان يقرأ كل يوم سبعاً بين الظهر والعصر ويصلي الضحى ثماني ركعات يقرأ فيهن ألف مرة قل هو الله أحد، وكان يزور مغارة الدم في كل يوم اثنين وخميس، ويجمع في طريقه الشيح فيعطيه الأرامل والمساكين، ومهما تهيأ له من فتوح وغيره يؤثر به أهله والمساكين، وكان متقللاً في الملبس وربما مضت عليه مدة لا يلبس فيها سراويل ولا قميصاً، وكان يقطع من عمامته قطعاً يتصدق بها أو في تكميل كفن ميت، وكان هو وأخوه وابن خالهم الحافظ عبد الغني وأخوه الشيخ العماد لا ينقطعون عن غزاة يخرج فيها الملك صلاح الدين إلى بلاد الفرنج، وقد حضروا معه فتح القدس والسواحل وغيرها، وجاء الملك العادل يوماً إلى ختمهم أي خصهم لزيارة أبي عمر وهو قائم يصلي، فما قطع صلاته ولا أوجز فيها، فجلس السلطان واستمر أبو عمر في صلاته ولم يلتفت إليه حتى قضى صلاته رحمه الله‏.‏

والشيخ أبو عمر هو الذي شرع في بناء المسجد الجامع أولاً بمال رجل فامي، فنفد ما عنده وقد ارتفع البناء قامة فبعث صاحب إربل الملك المظفر كوكرى مالاً فكمل به، وولى خطابته الشيخ أبو عمر، فكان يخطب به وعليه لباسه الضعيف وعليه أنوار الخشية والتقوى والخوف من الله عز وجل، والمسك كيف خبأته ظهر عليك وبان، وكان المنبر الذي فيه يومئذ ثلاث مراقي والرابعة للجلوس، كما كان المنبر النبوي‏.‏

وقد حكى أبو المظفر‏:‏

أنه حضر يوماً عنده الجمعة وكان الشيخ عبد الله البوتاني حاضراً الجمعة أيضاً عنده، فلما انتهى في خطبته إلى الدعاء للسلطان قال‏:‏

اللهم اصلح عبدك الملك العادل سيف الدين أبا بكر بن أيوب، فلما قال ذلك نهض الشيخ عبد الله البوتاني وأخذ نعليه وخرج من الجامع وترك صلاة الجمعة، فلما فرغنا ذهبت إلى البوتاني فقلت له‏:‏ ماذا نقمت عليه في قوله‏؟‏ فقال يقول لهذا الظالم العادل‏؟‏ لا صليت معه، قال فبينما نحن في الحديث إذ أقبل الشيخ أبو عمر ومعه رغيف وخيارتان فكسر ذلك الرغيف وقال الصلاة، ثم قال‏:‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏بعثت في زمن الملك العادل كسرى‏)‏‏)‏ فتبسم الشيخ عبد الله البوتاني ومد يده فأكل، فلما فرغوا قام الشيخ أبو عمر فذهب، فلما ذهب قال لي البوتاني‏:‏ يا سيدنا ماذا إلا رجل صالح‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ كان البوتاني من الصالحين الكبار، وقد رأيته وكانت وفاته بعد أبي عمر بعشر سنين فلم يسامح الشيخ أبا عمر في تساهله مع ورعه، ولعله كان مسافراً والمسافر لا جمعة عليه، وعذر الشيخ أبي عمر أن هذا قد جرى مجرى الأعلام العادل الكامل الأشرف ونحوه، ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/72‏)‏

كما يقال سالم وغانم ومسعود ومحمود، وقد يكون ذلك على الضد والعكس في هذه الأسماء، فلا يكون سالماً ولا غانماً ولا مسعوداً ولا محموداً، وكذلك اسم العادل ونحوه من أسماء الملوك وألقابهم، والتجار وغيرهم، كما يقال شمس الدين وبدر الدين وعز الدين وتاج الدين ونحو ذلك قد يكون معكوساً على الضد والانقلاب ومثله الشافعي والحنبلي وغيرهم‏.‏

وقد تكون أعماله ضد ما كان عليه إمامه الأول من الزهد والعبادة ونحو ذلك، وكذلك العادل يدخل إطلاقه على المشترك والله اعلم‏.‏

قلت‏:‏ هذا الحديث الذي احتج به الشيخ أبو عمر لا أصل له، وليس هو في شيء من الكتب المشهورة، وعجباً له ولأبي المظفر ثم لأبي شامة في قبول مثل هذا وأخذه منه مسلماً إليه في والله أعلم‏.‏

ثم شرع أبو المظفر في ذكر فضائل أبي عمر ومناقبه وكراماته وما رآه هو وغيره من أحواله الصالحة‏.‏

قال وكان على مذهب السلف الصالح سمتاً وهدياً، وكان حسن العقيدة متمسكاً بالكتاب والسنة والآثار المروية يمرها كما جاءت من غير طعن على أئمة الدين وعلماء المسلمين، وكان ينهى عن صحبة المتبدعين ويأمر بصحبة الصالحين الذين هم على سنة سيد المرسلين وخاتم النبيين، وربما أنشدني لنفسه في ذلك‏:‏

أوصيكم بالقول في القرآن * بقول أهل الحق والإتقان

ليس بمخلوق ولا بفان * لكن كلام الملك الديان

آياته مشرقة المعاني * متلوة للـه باللسـان

محفوظةً في الصدر والجنان * مكتوبةٌ في الصحف بالبنان

والقول في الصفات يا إخواني * كالذات والعلم مع البيان

إمرارها من غير ما كفران * من غير تشبيهٍ ولا عطلان

قال وأنشدني لنفسه‏:‏

ألم يك ملهاة عن اللهو أنني * بدا لي شيب الرأس والضعف والألم

ألم بي الخطب الذي لو بكيته * حياتي حتى يذهب الدمع لم ألم

قال ومرض أياماً فلم يترك شيئاً مما كان يعمله من الأوراد، حتى كانت وفاته وقت السحر في ليلة الثلاثاء التاسع والعشرين من ربيع الأول فغسل في الدير وحمل إلى مقبرته في خلق كثير لا يعلمهم إلا الله عز وجل، ولم يبق أحد من الدولة والأمراء والعلماء والقضاة وغيرهم إلا حضر جنازته‏.‏

وكان يوماً مشهوداً وكان الحر شديداً فأظلت الناس سحابة من الحر، كان يسمع منها كدوي النحل، وكان الناس ينتهبون أكفانه وبيعت ثيابه بالغالي الغالي، ورثاه الشعراء بمراثي حسنة، ورؤيت له منامات صالحة رحمه الله‏.‏

وترك من الأولاد ثلاثة ذكور‏:‏ عمر، وبه كان يكنى، والشرف عبد الله وهو الذي ولي الخطابة بعد أبيه، وهو والد العز أحمد‏.‏ وعبد الرحمن‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/73‏)‏

ولما توفي الشرف عبد الله صارت الخطابة لأخيه شمس الدين عبد الرحمن بن أبي عمر، وكان من أولاد أبيه الذكور، فهؤلاء أولاده الذكور، وترك من الإناث بنات كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏5‏]‏ قال وقبره في طريق مغارة الجوع في الزقاق المقابل لدير الحوراني رحمه الله وإيانا‏.‏

 ابن طبرزد شيخ الحديث

عمر بن محمد بن معمر بن يحيى المعروف بأبي حفص بن طبرزد البغدادي الدراقزي، ولد سنة خمس عشرة وخمسمائة، سمع الكثير وأسمع، وكان خليعاً ظريفاً ماجناً، وكان يؤدب الصبيان بدار القز قدم مع حنبل بن عبد الله المكبر إلى دمشق فسمع أهلها عليهما، وحصل لهما أموال وعادا إلى بغداد فمات حنبل سنة ثلاث وتأخر هو إلى هذه السنة في تاسع شهر رجب فمات وله سبع وتسعون سنة، وترك مالاً جيداً ولم يكن له وارث إلا بيت المال، ودفن بباب حرب‏.‏

 السلطان الملك العادل أرسلان شاه

نور الدين صاحب الموصل، وهو ابن أخي نور الدين الشهيد، وقد ذكرنا بعض سيرته في الحوادث، كان شافعي المذهب، ولم يكن بينهم شافعي سواه، وبنى للشافعية مدرسة كبيرة بالموصل وبها تربته، توفي في صفر ليلة الأحد من هذه السنة‏.‏

 ابن سكينة عبد الوهاب بن علي

ضياء الدين المعروف بابن سكينة الصوفي، كان يعد من الأبدال، سمع الحديث الكثير وأسمعه ببلاد شتى، ولد في سنة تسع عشرة وخمسمائة، وكان صاحباً لأبي الفرج ابن الجوزي ملازماً لمجلسه وكان يوم جنازته يوماً مشهوداً لكثرة الخلق ولكثرة ما كان فيه من الخاصة والعامة رحمه الله‏.‏

 مظفر بن ساسير

الواعظ الصوفي البغدادي، ولد سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة، وسمع الحديث، ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/74‏)‏

وكان يعظ في الأعزية والمساجد والقرى، وكان ظريفاً مطبوعاً قام إليه إنسان فقال له فيما بينه وبينه‏:‏ أنا مريض جائع، فقال أحمد ربك فقد عوفيت‏.‏

واجتاز مرة على قصاب يبيع لحماً ضعيفاً وهو يقول أين من حلف لا يغبن، فقال له حتى تحنثه‏.‏ قال‏:‏ وعملت مرة مجلساً بيعقوبا فجعل هذا يقول عندي للشيخ نصفية وهذا يقول عندي للشيخ نصفية، وهذا يقول مثله حتى عدوا نحواً من خمسين نصفية، فقلت في نفسي‏:‏

استغنيت الليلة فأرجع إلى البلد تاجراً، فلما أصبحت إذا صبرة من شعير في المسجد فقيل لي هذه النصافي التي ذكر الجماعة، وإذا هي بكيلة يسمونها نصفية مثل الزبدية، وعملت مرة مجلساً بباصرا فجمعوا لي شيئاً لا أدري ما هو، فلما أصبحنا إذا شيء من صوف الجواميس وقرونها، فقام رجل ينادي عليكم عندكم في قرون الشيخ وصوفه، فقلت لا حاجة لي بهذا وأنتم في حل منه‏.‏ ذكره أبو شامة‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وستمائة

استهلت والعادل مقيم على الطور لعمارة حصنه، وجاءت الأخبار من بلاد المغرب بأن عبد المؤمن قد كسر الفرنج بطليطلة كسرة عظيمة، وربما فتح البلد عنوة وقتل منهم خلقاً كثيراً‏.‏

وفيها‏:‏ كانت زلزلة عظيمة شديدة بمصر والقاهرة، هدمت منها دوراً كثيرة، وكذلك بالكرك والشوبك هدمت من قلعتها أبراجاً، ومات خلق كثير من الصبيان والنسوان تحت الهدم، ورئي دخان نازل من السماء فيما بين المغرب والعشاء عند قبر عاتكة غربي دمشق‏.‏

وفيها‏:‏ أظهرت الباطنية الإسلام وأقامت الحدود على من تعاطى الحرام، وبنوا الجوامع والمساجد، وكتبوا إلى إخوانهم بالشام بمضات وأمثالها بذلك، وكتب زعيمهم جلال الدين إلى الخليفة يعلمه بذلك، وقدمت أمة منهم إلى بغداد لأجل الحج فأكرموا وعظموا بسبب ذلك، ولكن لما كانوا بعرفات ظفر واحد منهم على قريب لأمير مكة قتادة الحسيني فقتله ظاناً أنه قتادة فثارت فتنة بين سودان مكة وركب العراق، ونهب الركب وقتل منهم خلق كثير‏.‏

وفيها‏:‏ اشترى الملك الأشرف جوسق الريس من النيرب من ابن عم الظاهر خضر بن صلاح الدين وبناه بناء حسناً، وهو المسمى بزماننا بالدهشة‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 الشيخ عماد الدين

محمد بن يونس الفقيه الشافعي الموصلي صاحب التصانيف والفنون الكثيرة، كان رئيس الشافعية بالموصل، وبعث رسولاً إلى بغداد بعد موت نور الدين أرسلان، وكان عنده وسوسة كثيرة في الطهارة، وكان يعامل في الأموال بمسألة العينة كما قيل تصفون البعوض من شرابكم وتستربطون الجمال بأحمالها، ولو عكس الأمر لكان خيراً له، ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/75‏)‏

فلقيه يوماً قضيب البان الموكه فقال له‏:‏ يا شيخ بلغني عنك أنك تغسل العضو من أعضائك بإبريق من الماء فلم لا تغسل اللقمة التي تأكلها لتستنظف قلبك وباطنك‏؟‏ ففهم الشيخ ما أراد فترك ذلك‏.‏ توفي بالموصل في رجب عن ثلاث وسبعين سنة‏.‏

 ابن حمدون تاج الدين

أبو سعد الحسن بن محمد بن حمدون، صاحب التذكرة الحمدونية، كان فاضلاً بارعاً، اعتنى بجمع الكتب المنسوبة وغيرها، وولاه الخليفة المارستان العضدي، توفي بالمدائن وحمل إلى مقابر قريش فدفن بها‏.‏

 صاحب الروم خسروشاه

ابن قلج أرسلان، مات فيها وقام بالملك بعده ولده كيكايرس، فلما توفي في سنة خمس عشرة ملك أخوه كيقباذ صارم الدين برغش العادلي نائب القلعة بدمشق، مات في صفر ودفن بتربته غربي الجامع المظفري، وهذا الرجل هو الذي نفى الحافظ عبد الغني المقدسي إلى مصر وبين يديه كان عقد المجلس، وكان في جملة من قام عليه ابن الزكي والخطيب الدولعي، وقد توفوا أربعتهم وغيرهم ممن قام عليه واجتمعوا عند ربهم الحكم العدل سبحانه‏.‏

 الأمير فخر الدين سركس

ويقال له جهاركس أحد أمراء الدولة الصلاحية وإليه تنسب قباب سركس بالسفح تجاه تربة خاتون وبها قبره‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏

هذا هو الذي بنى القيسارية الكبرى بالقاهرة المنسوبة إليه وبنى في أعلاها مسجداً معلقاً وربعاً، وقد ذكر جماعة من التجار أنهم لم يروا لها نظيراً في البلدان في حسنها وعظمها وإحكام بنائها‏.‏

قال‏:‏ وجها ركس بمعنى أربعة أنفس‏.‏

قلت وقد كان نائباً للعادل على بانياس وتينين وهو بين، فلما توفي ترك ولداً صغيراً فأقره العادل على ما كان يليه أبوه وجعل له مدبراً وهو الأمير صارم الدين قطلبا التنيسي، ثم استقل بها بعد موت الصبي إلى سنة خمس عشرة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/76‏)‏

الشيخ الكبير المعمر الرحلة أبو القاسم أبو بكر أبو الفتح

منصور بن عبد المنعم بن عبد الله بن محمد بن الفضل الفراوي النيسابوري، سمع أباه وجد أبيه وغيرهما، وعنه ابن الصلاح وغيره، توفي بنيسابور في شعبان في هذه السنة عن خمس وثمانين سنة‏.‏

 قاسم الدين التركماني

العقيبي والد والي البلد، كانت وفاته في شوال منها والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وستمائة

فيها اجتمع العادل وأولاده الكامل والمعظم والفائز بدمياط من بلاد مصر في مقاتلة الفرنج فاغتنم غيبتهم سامة الجبلي أحد أكابر الأمراء، وكانت بيده قلعة عجلون وكوكب فسار مسرعاً إلى دمشق ليستلم البلدين، فأرسل العادل في إثره ولده المعظم فسبقه إلى القدس وحمل عليه فرسم عليه في كنيسة صهيون، وكان شيخاً كبيراً قد أصابه النقرس، فشرع يرده إلى الطاعة بالملاطفة فلم ينفع فيه فاستولى على حواصله وأملاكه وأمواله وأرسله إلى قلعة الكرك فاعتقله بها‏.‏

وكان قيمة ما أخذه منه قريباً من ألف ألف دينار، من ذلك داره وحمامه داخل باب السلامة، وداره هي التي جعلها البادرائي مدرسة للشافعية، وخرب حصن كوكب ونقلت حواصله إلى حصن الطور الذي استجده العادل وولده المعظم‏.‏

وفيها‏:‏ عزل الوزير ابن شكر واحتيط على أمواله ونفي إلى الشرق، وهو الذي كان قد كتب إلى الديار المصرية بنفي الحافظ عبد الغني منها بعد نفيه من الشام، فكتب أن ينفى إلى المغرب، فتوفي الحافظ عبد الغني رحمه الله قبل أن يصل الكتاب، وكتب الله عز وجل بنفي الوزير إلى الشرق محل الزلازل والفتن والشر، ونفاه عن الأرض المقدسة جزاء وفاقاً‏.‏

ولما استولى صاحب قبرص على مدينة إنطاكية حصل بسببه شر عظيم وتمكن من الغارات على بلاد المسلمين، لا سيما على التراكمين الذين حول إنطاكية، قتل منهم خلقاً كثيراً وغنم من أغنامهم شيئاً كثيراً، فقدر الله عز وجل أن أمكنهم منه في بعض الأودية فقتلوه وطافوا برأسه في تلك البلاد، ثم أرسلوا رأسه إلى الملك العادل إلى مصر فطيف به هنالك، وهو الذي أغار على بلاد مصر من ثغر دمياط مرتين فقتل وسبى وعجز عنه الملوك‏.‏

 وفي ربيع الأول منها توفي الملك الأوحد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 13/77‏)‏

 نجم الدين أيوب

ابن العادل صاحب خلاط، يقال إنه كان قد سفك الدماء وأساء السيرة فقصف الله عمره، ووليها بعده أخوه الملك الأشرف موسى، وكان محمود السيرة جيد السريرة فأحسن إلى أهلها فأحبوه كثيراً‏.‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏

فقيه الحرم الشريف بمكة

 محمد بن إسماعيل بن أبي الصيف اليمني، وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن أبي بكر القفصي المقري المحدث، كتب كثيراً وسمع الكثير ودفن بمقابر الصوفية‏.‏

 أبو الفتح محمد بن سعد بن محمد الديباجي

من أهل مرو، له كتاب المحصل في شرح المفصل للزمخشري في النحو‏.‏ كان ثقة عالماً سمع الحديث توفي فيها عن ثنتين وتسعين سنة‏.‏

 الشيخ الصالح الزاهد العابد

أبو البقاء محمود بن عثمان بن مكارم النعالي الحنبلي كان له عبادات ومجاهدات وسياحات، وبنى رباطاً بباب الأزج يأوي إليه أهل العلم من المقادسة وغيرهم، وكان يؤثرهم ويحسن إليهم، وقد سمع الحديث وقرأ القرآن، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر‏.‏ توفي وقد جاوز الثمانين‏.‏